قصة قصيرة

لم تكن ليلة عادية

أبو حمزة يمسك جهاز التواصل اللاسلكي ليخبر العمليات بصوت منهك ومرتجف بأن قرية القراصي صديق بالكامل.
كان أبو حمزة في إحدى نوبات الرباط المعتادة في قرية القراصي عام 2016 أيام معارك فك الحصار عن مدينة حلب، يقود مجموعة مؤلفة من 7 شبان يملؤهم الحماس، قد اكتسوا بالشجاعة والأنفة.
كانت ليلة صاخبة بأصوات المدافع والراجمات لا يكاد الرجل يسمع صوت رفيقه بجانبه، قذيفة تلو الأخرى وأصوات الانفجارات أذهبت سكون الليل وهدوءه، فاستحال لنهار صاخب يضج برائحة الموت، كان أبو حمزة وقتها يتواصل بين الفينة والأخرى مع النقاط المحيطة به ليطمئن عليهم وعيناه نحو الأمام قلما ترمشان فالليلة تبدو كغيرها.
أحس أبو حمزة بأن تصعيد القصف من قبل الميليشيات الإيرانية ليس عبثا فكان متيقظا بعد أن طلب من رفاقه الاستنفار وأن يكونوا جاهزين لأي طارئ. في الساعة الواحدة ليلا اكتشف أبو حمزة أن الاتصال فقد مع نقطة مجاورة، فحاول مرارا وتكرار لكن دون جدوى.
أدرك وقتها أن عليه عمل أي شيء تجاه ذلك تردد قليلا قبل أن يرتب على كتف أبو ياسر ويقول له بلهجته البدوية: خلي بالك على الشباب” وأومأ برأسه لأحد رفاقه قائلا : خلينا نشوف الشباب ليش ما يردون.
وسط ذلك القصف الكثيف سرى أبو حمزة ورفيقه في ذاك الظلام وبدا ظلهما يختفي شيئا فشيئا، كان يحاول في الطريق التواصل مع النقطة لكن دون إجابة، كان يتقدم بحذر شديد فكل الاحتمالات واردة، ولما أن أصبح على بعد 300 م من النقطة وجد جدارا يعلو نحو المتر ونصف فجلسا قليلا ثم نظرا بمنظار ليلي ليكتشف أبو حمزة ما كان يخشاه.
إنها مجموعة معادية سيطرت على النقطة ولا يعلم مصير المرابطين هناك، ارتبك أبو حمزة ورفيقه وتوقفت الأفكار في رأسه بدا كأنه تائه في صحراء، ثم تمالك نفسه وبدأ بتأمين نفسه ورفيقه أولا، سأله رفيقه ما العمل؟
أجاب أبو حمزة : نرجع على الشباب لكن شوي شوي….
وعادا بحذر شديد لكيلا يكشف أمرهما، حاول أبو حمزة التواصل مع العمليات لكن الاتصال فقد أيضا، ثم وصل لنقطته وأخبر البقية بما جرى، كان إلى جوارهم نقطتان من فصائل مختلفة.
رأى أبو حمزة أن تجتمع المجموعات الثلاث في نقطة واحدة فجمعها واختاره الجميع أميرا عليهم. وبدأت المجموعات الثلاث تشد بعضها بعضا مطلقين عبارات الحماسة، وقال القائد الجديد: خلونا هون ماسكين التلة وصامدين مهما صار…
رغم هول الأحداث وخطورة الموقف آثر البعض الصمود على الانسحاب ريثما تأتي المؤازرة التي كان يتقين أبو حمزة بقدومها اعتقادا منه بأن العمليات ستبعث بها فور علمها بانقطاع الاتصال مع نقاط الرباط، وبالفعل كان كذلك لكن الميليشيات الشيعية وقتها كانت قد نصبت كمينا واستطاعت أن تضرب مجموعة جاءت تستطلع سبب عدم استجابة النقاط الداخلية لنداءات العمليات.
في تمام الساعة الثالثة فجرا بدأ العدو الهجوم على التلة التي يتترس بها أبو حمزة ورفاقه وكانت الاشتباكات حامية، وتعرضت النقطة لغارتين جويتين لكن حفظ الله ثم متانة التحصين حالت دون كسر الدفاعات الأولى، بعد ساعة واحدة من الاشتباك وقعت إصابتين في صفوف المجاهدين فزادت المهمة تعقيدا وصعوبة، بل بات عليهم فعل شيء للمصابين الذين شكلوا عبئا إضافيا، فكادت المعنويات أن تنهار لولا ثبات المقاتلين وتشجيع أبي حمزة لهم.
تمكن الفريق من التماسك وأفرغ أبو أحمد حقيبته الإسعافية ليضمد جراح رفيقيه الاثنين بعد أن سحبهما لداخل خندق حصين، مع كل دقيقة تمر تزداد المهمة صعوبة، فالذخيرة تقل شيئا فشيئا وبات التعب ينال منهم. ومع بزوغ الفجر أصبح أبو حمزة ورفاقه هدفا سهلا للمروحيات التي بدأت بإلقاء البراميل المتفجرة عليهم، هنا اتجه التفكير نحو حلول غير تقليدية فالصمود أكثر يعني خسارة أكبر، والانسحاب بعد بزوغ الفجر وسط منطقة مكشوفة يعني انتحار بكل ما تعنيه الكلمة، تقلصت الخيارات وضاق الأفق وسيطرت شكوك النجاة على الجميع، إلا أن خيار المقاومة كان الحل الأنسب برأي أبي حمزة لا بل الجميع، أبقى كل واحد منهم على 4 طلقات في بندقيته تفاديا للأسر فلم تبق سوى هذه الطلقات.
الساعة التاسعة صباحا، أبو حمزة ورفاقه محاصرون لم يتبق لديهم ذخيرة إلا ما ندر، مع كل ربع ساعة برميل متفجر ومع كل دقيقة قذيفة يشق صوتها صمتا أسود خيم على المحاصرين، ثم يأتي صوت مجنزرة من الخلف تقضي على ما تبقى من أمل وبعد 3 دقائق يتبين أنها دبابة صديقة يهرول خلفها رتلين من الانغماسيين.
بدأت أصوات التكبير تسمع من خلف الدبابة….
يقول أبو حمزة : لا أنسى ذلك الموقف فما إن ظهرنا عليهم وعلموا بأنا أحياء حتى أسرعوا نحونا، ثم رأيت صواريخ الفيل تغادر نحو النقطة التي كان استولت عليها الميليشيات ليلا، وصلت إلينا الدبابة لتأخذ مكانها خلف الساتر وما هي إلا دقائق حتى وصلت عربة أخرى ناقلة للجند وضعنا فيها المصابين ثم أخذنا ذخيرة وماء وطعاما، أحسست أنا بعثنا من جديد. سجدنا لله شكرا ودموع الفرح أبلغ على التعبير.
نظمنا صفوفنا وقمنا بهجوم معاكس سبقه تمهيد بعشرين صاروخا سقطت وسط تجمع لهم فكانت معركة حامية، عنوانها الانتقام لشهيد ومصابين كانوا قد وقعا في النقطة التي استولت عليها الميليشيات.
استطعنا شق صفوفهم بعد أن شكلنا رأس حربة وانتشرنا بمجموعات صغيرة داخل قرية القراصي نتصيد أولئك الأوغاد لتعود القرية محررة بالكامل في الساعة الــ 2 ظهرا، رأيت أكثر من 20 جثة لما يسمى بميليشيا “حركة النجباء” واغتنمنا أسلحة كثيرة وعربة عسكرية.
تلك ساعات لم ولن أنساها أكسبتني خبرة لا تقدر بثمن، وأدركت حقيقة أن النصر صبر ساعة فلولا أن وهبنا الله ذاك الصبر لما صمدنا تلك الساعات التي تعادل أياما بل شهورا، تعلمت أيضا أن الرجل يجب أن يكون شجاعا فالجبن لا يدفع الموت ولا يدفع عدوا ولا يحرر أرضا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى