قصة قصيرة

خمسون يوما لن أنساها

لا أعلم من أين أبدأ، فجميع التفاصيل أشبه بمعجزة، أو ربما يمكن وصفها بأسطورة، لم أشهد بحياتي مثل تلك الأيام ولا كمثل أحداثها ولا حتى رأيت من يشبه أبطالها، بدأت القصة عندما جمع المحتل الروسي وعصابات الأسد كل ما يملكون جوا وبحرا وبرا ليبدؤوا حملة شعواء على الشمال المحرر نهاية عام 2018، كنت وقتئذ حاضرا فشهدت معارك الصد وتراجعنا تحت آلاف الأطنان من القذائف التي لو وجهت نحو الجولان لحرر في غضون ساعات.
كانت المناطق تسقط بيد الروس المحتلين بعد تضحيات عظيمة شاهدتها وعاينتها حقيقة وواقعا، حتى رأى بعض القادة أن أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم وهنا كانت المعركة الفاصلة التي غيرت مفاهيم القوة لدي إلى يومنا هذا.
بدأت الفصائل حينها بالتخطيط للسيطرة على قريتي ” تل ملح” و” الجبين” شمال حماة لتشتيت العدو وضربه بالخاصرة فهو كان يتقدم على جبهة كفرنبودة، وبعد إعداد العدة بدأت المعركة التي تذخر بمواقف بطولية أشبه بحكايا الأجداد.
أذكر عندما تجهزنا وكان الهجوم عبر دبابة في المقدمة وخلفها عربة BMB وخلفها سيارة مصفحة، كانت الهمم تعانق السماء والتصميم موجود على إحداث خرق بدفاعات العدو لإيقاف حملته، انطلقت الدبابة بعد تمهيد عنيف على مواقع العدو، وكانت المنطقة قد امتلأت بالألغام وفي بداية الانطلاق انفجر لغم مضاد للأفراد بالدبابة إلا أنها لم تصب بأذى، لكن عربة الـ BMB تعرضت أيضا للغم أدى لتعطلها عن المسير وبالتالي توقفت السيارة خلفها خوفا من الألغام، لم يكن يعلم سائق الدبابة أنه أضحى وحيدا وهو يشق طريقه نحو الهدف فكانت إرادته وتصميمه وشجاعته منقطعة النظير تمنعه من الالتفات للوراء.
وصل سائق الدبابة حينها ونحن ما زلنا بعد نقطة الانطلاق بعشرات الأمتار واستطاع أن يدخل تحصينات العدو، وبعد أن دخل حاجز العصابات أدرك حينها أنه وحيدا، إلا أن ذلك الموقف الرهيب لم يثن من عزيمته بل تابع طريقه وأخذ يتحرك بدبابته داخل الحاجز ففر عناصر العصابة كالجرذان يسبق بعضهم بعضا طمعا في الحياة وخوفا من الموت، ترجل ذلك الفارس ولم يكن بحوزته سوى عدة رصاصات وهو يزأر: الله أكبر الله أكبر، فلم يجد أمامه سوى غزاة ضعفاء قد ولوا الأدبار خائبين خاسئين، فأخذ جهازه اللاسلكي وأخبر غرفة العمليات أن النقطة تحررت.
لم نصدق في البداية وظننا أنها خدعة من عصابات الأسد لكنها كانت حقيقة، حينها أدركنا أنا ورفاقي أن العدة والعدد ليست أساسا للنصر بل هناك ما هو أثمن وأخطر، إنها الإرادة والعقيدة إنها القضية إنها الإصرار، فانطلقنا مسرعين لم نعد نأبه لطائرات المحتلين ولا عددهم ولا عتادهم وما هي إلا دقائق حتى تحررت قرية “الجبين” بالكامل ثم “تل ملح”.
فكانت تلك صاعقة للمحتلين وأذنابهم، لم يكن النصر عسكريا فحسب بل كان معنويا ففي الوقت الذي كنا نعاني فيه من التراجع استطعنا إحداث تقدم كبير، ثم تحولت تلك القريتين إلى محرقة عظيمة لعصابات الأسد وداعميهم الروس والإيرانيين.
استمرت محاولات العدو لاسترجاع القريتين نحو 50 يوما، حضرت منها نحو 15 يوما رأيت فيها مشاهد أقرب للخيال، كنت أرى رفيقي يصاب فيرفض الخروج قائلا: إصابتي خفيفة ويمكنني أن أكمل، رأيت فيها دبابات العدو وعرباته العسكرية تحترق، رأيت فيها عناصر العدو يصلون إلينا، فنقابلهم برباطة جأش وطمأنينة عجيبة، فيسقطون أمامنا كالذباب إما قتلى وإما جرحى وإما فارين كالكلاب.
هناك تحطمت عنجهية المحتلين وكان ألمهم كبيرا وجرحهم عميقا، وصحيح أن الخسائر العسكرية كانت لا تعني لهم الكثير لكن الخسارة كانت معنوية بشكل أكبر عندما عجزوا عن استرجاع القريتين، ففي إحدى المرات استطاعوا أن يصلوا إليها وانحاز المجاهدون إلى الخطوط الخلفية في قرية” الجبين” فطلب منا أن نعد أنفسنا للمؤازرة.
وصلنا إلى المكان وكان المجاهدون قد أخلوا القرية والعدو استولى على مقدمتها من جهته وكنا نحو 12 مقاتلا، حينها انقسمنا إلى قسمين ودخلنا القرية حتى وصلنا إلى مكان تمركز عناصر العصابات فدارت بيننا اشتباكات حامية قتل فيها أكثر من 15 وجرح آخرون ثم هرب الباقي والذين كانت أعدادهم كبيرة بالنسبة لنا، إلا أن الخوف والجبن والخور استولوا على قلوبهم.
ذاك جزء من حياتي لن أنساه علمني الكثير، تعلمت أن الحق أقوى وأن الباطل ضعيف ولا يمكن أن يصمد لوقت طويل، تعلمت أن الحق يمتلك أسلحة كثيرة لا يمكن حصرها بالخطط العسكرية والسلاح والعدد بل هناك أهم من ذلك، كل ذلك أدركته حقيقة عندما شاهدت أنوف الروس ثاني أقوى جيش بالعالم تمرغ على أيدي أبطال يقاتلون بأسلحة خفيفة، بدائية إن صح التعبير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى