قصة قصيرة

صرخ أبوه : إنه حي

كنت أسمع عن القصص والروايات التي تقرب من الخيال وفي كثير من الأحيان كنت أشك في صحتها فأعدها لسد الفراغ والتسلية واستجرار الحكمة لا أكثر حتى حدثت معي تلك القصة التي أشك أن يصدقني من سمعها وسيسمعها.
كنت فتى في مقتبل العمر عندما بدأت الثورة السورية وكنت متحمسا جدا للخروج بالمظاهرات، فالساحة في مدينتنا كانت صاخبة بهتافاتنا أنا وأبناء عمومتي فقد تعاهدنا ألا ندع مظاهرة إلا ونخرج فيها، حتى حملنا السلاح عندما فرض علينا حمله بعد دخول الجيش لمدينتنا عدة مرات وقتل واعتقال عشرات الرجال والشبان فاضططرنا لحمله دفاعا عن أنفسنا وأهلنا في المدينة.
خضت عدة معارك وأنا في سن العشرين، كانت المعارك ضارية وقاسية، لكن إحداها تميزت بحادثة لن أنساها ما حييت، المعركة بدأت عندما كنا مرابطين على إحدى خطوط الجبهة بريف حلب الجنوبي عام 2017 وقتها شن المحتل الروسي وعصابات الأسد هجوما عنيفا علينا منذ ساعات الصباح الأولى، تمكنا في البداية من الصمود وصد عدة محاولات تقدم لكن حمم الطائرات والقصف الجنوني أجبرنا على الانسحاب بعدما رأى القائد العسكري ضرورة ذلك.
إلى تلك اللحظة بدا الأمر اعتياديا فهذه ليست المرة الأولى التي أتعرض فيها لمثل هذا الموقف إلا أننا أثناء انسحابنا للخط الدفاعي الثاني تأخرت قليلا عن رفاقي بعد أن نال مني التعب حاولوا تشجيعي لكنني لم أقدر، وأثناء سيرنا انفجرت قذيفة مدفعية بجانبنا فارتقى ثلاثة من رفاقي وأصبت أنا بشظية اخترقت ظهري ارتميت على الأرض ولم أشعر حينها بشيء سوى أنني أحسست ببعض الألم وبالدماء التي تسيل بغزارة، تمددت على ظهري وما هي إلا لحظات حتى فقدت الوعي.
كل ما أذكره أني استيقظت في اليوم التالي وما أدري كم المدة التي فقدت فيها الوعي، استيقظت على حبات المطر التي كانت كوخذ الإبر على وجهي وجبهتي كنت أحس بعطش شديد لكني لا أقدر على الوقوف، كنت مرتبكا لا أعلم هل أنا حي أم ميت وأين أنا، كنا في فصل الربيع وكانت الحشائش طويلة حاولت النهوض لمعرفة الاتجاهات لكن دون فائدة، فتحت فمي لعلي أشرب من ماء الأمطار فنجحت بكسر حدة العطش ثم بدأت أزحف ظننت أني ابتعدت كثيرا لكن الحقيقية لم أتحرك سوى أمتار، ثم أغمي علي.
استيقظت مرة أخرى في الليل لم أكن أعلم كم المدة التي أبقى مغمى عليها، هذه المرة نجحت بتحديد مكان وجود العدو فبينما أنا أطالع السماء إذ أطلق العدو قنابل مضيئة فعلمت من مصدر القنابل جهة العدو وجهة الصديق عاد لي بعض الأمل، الذي اختلط بخوف رهيب من الاعتقال، صوت المدافع والاشتباكات لم تكن لتهدأ وكنت متيقن أنني في المنطقة الواقعة بين الخط الدفاعي الأول والخط الدفاعي الثاني وهذا ما كان يمدني بالطاقة والأمل لأبقى متماسكا.
كنت أستغل فترات الاستيقاظ بالزحف نحو نقاطنا لكن على ما يبدو كانت فترات الإغماء أطول، كنت وحيدا بين العشب الأخضر الطويل الرطب، كان الربيع حولي يكلمني فيقول لي أنت قادر لا تيأس لا تستسلم فالحياة أمامك، كان الزمن بالنسبة لدي يبدأ عند الاستيقاظ وينتهي عند الإغماء فالساعات والأيام نسخت من حياتي في تلك الأثناء.
أغمي علي مجددا وكانت فترة طويلة استيقظت على أصوات وبكاء بالكاد تمكنت من فتح عيني خلت أني وقعت في الأسر، استجمعت قواي وحاولت الإبصار جيدا فإذا بشقيقي الأكبر يقف فوق رأسي ويبكي، وما إن رمشت بعيناي حتى سمعت صوت أبي يصرخ “عايش عايش الله أكبر الله أكبر ألف الحمد لله يا رب” أبصرت جيدا فإذا بأبي وأخي الأكبر والقائد “أبو مسلم” فوق رأسي يبكون، حاولت الكلام لكني لم أستطع سألني أخي هل تعرفني فاستجمعت قواي وأومأت نعم فاستبشروا وحملت بعدها إلى المشفى.
استيقظت في المشفى فوجدت أهلي وأصدقائي وبعدها علمت أني بقيت 6 أيام أصارع الموت بينما المعارك الضارية تدور من حولي بين المحتلين الإيراني والروسي وعصابات الأسد من جهة ورفاقي من جهة أخرى لتتمكن الفصائل بعد 4 أيام من الهجوم المعاكس من استرجاع كامل المناطق التي تقدم عليها العدو، والعثور علي، أخبرني أبي أن الخبر الذي وصل إلى أسرتي كان يقول باستشهادي، لذلك كانت مفاجأة عندما وجدوني حي، فهم من المفترض كانوا يبحثون عن جثة هامدة ربما يجدونها منتفخة ومتهشمة ولم يخطر ببالهم أبدا أن أكون حيا.
خضعت لعدة عمليات جراحية في قدماي نتيجة عدم وصول الدم إليهما، وكنت أشبه بشاب مشلول لعدة أشهر لكن الله منّ علي بالشفاء وأنا اليوم بين رفاقي أطلب ثأرا لي مع هؤلاء الغزاة، بعد أن أصبح لدي يقين أن يوم المنية لن يؤخره هروب ولن يقدمه إقدام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى